نبني بالتراث ذاكرةً وخيالًا،

سناء موسى: نبني بالتراث ذاكرةً وخيالًا، ونخشى عليه من الأعمال الّتي تؤذيه

  • سناء موسى: نبني بالتراث ذاكرةً وخيالًا، ونخشى عليه من الأعمال الّتي تؤذيه
  • سناء موسى: نبني بالتراث ذاكرةً وخيالًا، ونخشى عليه من الأعمال الّتي تؤذيه
  • سناء موسى: نبني بالتراث ذاكرةً وخيالًا، ونخشى عليه من الأعمال الّتي تؤذيه
  • سناء موسى: نبني بالتراث ذاكرةً وخيالًا، ونخشى عليه من الأعمال الّتي تؤذيه
  • سناء موسى: نبني بالتراث ذاكرةً وخيالًا، ونخشى عليه من الأعمال الّتي تؤذيه
  • سناء موسى: نبني بالتراث ذاكرةً وخيالًا، ونخشى عليه من الأعمال الّتي تؤذيه

ثقافة وفنون قبل 5 سنة

سناء موسى: نبني بالتراث ذاكرةً وخيالًا، ونخشى عليه من الأعمال الّتي تؤذيه

صوت من الجليل الفلسطينيّ، حملت التراث من فؤاد الجدّة الشجرة إلى قلوب الجماهير المبثوثة، وطافت به في أرجاء الأرض تبشّر بتهليلة جديدة، تهليلة النصر هذه المرّة؛ لأنّ عصا موسى لم تشقّ الأرض دون الفلسطينيّ؛ ولأنّ يعقوب أبصر من ريح يوسف ومن دمه. من هنا يجيء التراث كورسًا من الحبّ؛ ودليلًا على البقاء، ومن هنا كان الضياء، وكان الصوت، وكان السناء.

رحلة مع فنّانة فلسطينيّة مفعمة بالحبّ والتراث؛ عبر حوار أُجري في ضواحي باريس؛ ليحطّ ضيفًا على تونس، تونس الّتي لم يشف الفلسطينيّ من حبّها، ولم يتنكّر الدم التونسيّ لنبل قضيّتها؛ فكانت غارة تشرين الأوّل (أكتوبر) الغاشمة على حمّام الشطّ، وغيرها من محطّات كثيرة؛ دليلًا على أقصوصة أو أهزوجة "كنعانيّة بين قرطاج وفلسطين".

حاورتها إشراق كرونة.

 

إشراق: تؤكّدين دائمًا دور العائلة في توجيه ذائقتك وخياراتك الفنّيّة، لكنّ مخاض البداية كان طويلًا وعلى دفعات في ألبوم "إشراق"، هل لك أن تحدّثينا عن أثر هذا المناخ في عملك البكر؟

سناء: أعتقد أنّ العائلة أو المكان - مكان نشأة كلّ شخص - بداية تكوين عمليًّا، لا للذائقة فقط، بل لشحذ الموهبة أيضًا؛ لأنّه من دون حاضنة حقيقيّة، ومن دون بيئة مناسبة؛ من الصعب جدًّا الخروج بشيء قيّم وواضح، بالنسبة إليّ على الأقلّ.

 

أوّل لحن تراثيّ سمعته من جدّتي، أتحدّث هنا عن الجيل الأوّل – أسمته الجيل الصفر – للنكبة؛ أي سنة أو سنتين بعد أحداث 1948، وقد كان عبارة عن تهاليل فلسطينيّة. تعرّفت في ما بعد على "العتابا"، وأثّرت فيّ إلى درجة أنّني توجّهت إلى هذا اللون من الغناء "التراث"، وقد كان مطروقًا، غير أنّه ليس شائعًا قبل 2010، أمّا ما لم يكن مطروقًا فهو المحاور المتناولة، كالّتي عملت عليها في "إشراق"، كان غناؤه أصلًا على المسرح، ولم يلق رواجًا قبل هذا التاريخ بين أوساط المغنّين، أمّا قصّة نجاحه بين الناس فنتكلّم فيها لاحقًا.

كان والدي علي موسى ذا صوت جميل أيضًا، صوت مثقّف يبدع في الغناء العراقيّ والشاميّ والفلسطينيّ، هذا غير إحاطته بالموسيقى الكلاسيكيّة المصريّة. لقد كنت محظوظة بنشأتي في وسط عائليّ، وفي بيت بهذه المواصفات وبهذا الزخم، هذا التنوّع يجعلك تمتصّ كلّ هذه الألحان وهذه الأفكار وتخزّنها. في اللحظة المناسبة ثمّة "محفّز"، وهذا المحفّز يمكن أن يكون صدمة، نهاية/ بداية مرحلة معيّنة، وبحضور هذا المحفّز تجد ما يكفي من مخزون مؤثّر فيك. عمليًّا، لا أغنّي الأغاني كما حفظتها تمامًا من جدّتي ومن أبي، أنا أغنّي تأثيرهما فيّ وانطباعي من هذا التأثير. كم من الممكن أن أشبه جدّتي؟ أن أقول ما قالت؟ في النهاية، أنا خُلقت في عصر مختلف عن عصرهما، ولدّي تجربة مختلفة عن تجاربهما؛ ولذلك أقول الأشياء بطريقتي، أصوغ تأثيرها فيّ.

 

إشراق: كانت بداياتك مع "المونولوج" لونًا غنائيًّا، يبذر موشّحات ويطلّ على المسرح، هل من خيط ناظم بين لون "الموشّح"، الّذي نشمّ منه أندلسًا بعيدًا، وبين "التراث" المستعاد من ذاكرة بعيدة، أُريد لها أن تُطْمَر؟

سناء: السؤال جميل جدًّا، في البداية، "المونولوج" قالب مختلف كلّيًّا عن الموشّحات، الآن أقول نعم، ثمّة خيط يصل بين "المونولوج" و"الموشّحات"، وهو أساس الطريق؛ أي كيف وصلت إلى الأغاني التراثيّة ثمّ كيف وصلت بينها. "المونولوج" قالب كلاسيكيّ وُلد في مصر في العشرينات، وتطوّر في الأربعينات ثمّ توقّف. ولعلّ أهمّ مَنْ لحّن هذه "المونولوجات" - وهي ليست أغاني تندرج ضمن قالب "المونولوج" - الموسيقار محمّد القصبجي، وأهمّ مَنْ غنّى هذه الأغاني أُمّ كلثوم.

 

إنّ "المونولوج" قالب غنائيّ يشبه في تركيبته "الأريا" في "الأوبرا"، وهو فصل غنائيّ يبدأ فيه المغنّي/ ة بسرد "حكاية" تلخّص فترة معيّنة من حياته، موسوم ببداية وبنهاية وله "عقدة". لا يستوعب هذا القالب إعادات لحنيّة أو ترديد كلمات، ويسمّى أيضًا "ثروكمبوزد" (انسيابيّ) - يتميّز بالصراحة والشفافيّة - وهذا يغيب عن أغلب الأغاني، على أنّ ثمّة أغاني تُنْظَم لتلائم إيقاعًا أو وزنًا فحسب - على عكس "المونولوج" الّذي لا يعرف المجاملة، وفيه قدر عالٍ من الصراحة والمصداقيّة والحدّة، وأنا أحببت هذه المزايا، وكنت أبحث عن موسيقى في الأغاني التراثيّة، تحيل كلماتها على هذا النمط قبل عملي الأوّل "إشراق"، وهو عمل جماعيّ شارك فيه العديد، ولهم الفضل في إنجازه.

لقد كانت الأغاني التراثيّة الفلسطينيّة الأكثر شيوعًا أغاني الأفراح "وين ع رام الله، على دلعونا، زفّينا العريس"، وهي أغانٍ تقدّم ضرورة في طقس جماعيّ، وفيها - حسب رأيي - الكثير من التكلّف أو التظاهر؛ ذلك أنّنا نبدي ظاهريًّا عكس ما نضمر من مشاعر... حزن... ألم...؛ لأنّ "الضرورة" تحتّم ذلك، ولأنّ المجتمع يطلب منك أن تكون "قويًّا"، هنا نجد مبالغة كبيرة في الصور وفي معنى "الأشياء" المغنّاة؛ فمثلًا نجد جمل فخر "رائعة" من حيث الصورة والبلاغة: "خيلنا تدوس المنايا خيلنا... "، لكنّ قوّة الصورة فيها، المبالغة تحديدًا، الّتي يطلبها الطقس الجماعيّ - رفع المعنويّات، والاعتداد بالنفس... - غير أنّني كنت أبحث عن "مونولوج"، كلمة لوم وعتاب صادقة دونما تكلّف. في المقابل؛ لنأخذ مثالًا آخر عن نساء حُرمن من الزواج بشخص مرغوب فيه، و"تغرّبن" - كما تقول العبارة الفلسطينيّة - أي أنّهنّ تزوّجن في قرًى بعيدة نسبيًّا عن عائلاتهنّ - "يا أهل الغريبة طلّوا ع غريبتكم، وإن تعبت الخيل شدّولي عزيمتكم". هذا "المونولوج" الصريح والحادّ، الّذي كنت أبحث عنه والّذي أحببته في أسطوانة "إشراق"؛ لذا كان صوتًا نسائيًّا؛ لأنّهنّ رائدات في قول كلمتهنّ الصريحة، وفي نقل مشاعرهنّ بشجاعة وصدق بعيدًا عن التكلّف.

 

إشراق: في عالم الأدب، اختيار العنوان عامل لا يقلّ أهمّيّة عن المحتوى، لماذا "إشراق" على التراث؟

سناء: "إشراق" ترجمة "لمعنى" الذاكرة واسترجاعها أيضًا، "فلاش باك". أتذكّر هنا رواية مارسال بروست "رومينيسونس"؛ لأنّها تتحدّث عن هذا الموضوع بوضوح، وهي واحدة من الروايات الّتي أثّرت فيّ بشكل عميق.

هذا الوحي وهذه الهواجس أفضت إلى "إشراق"، كان قراري ببدء الغناء مرتبطًا بظرف صعب مررت به - فقداني جدّي الّذي كنت متعلّقة به كثيرًا - وعندما سمعت جدّتي تحكي بيت "عتابا" عن جدّي؛ قفزت إلى بالي أغانٍ، كمن يخفي شيئًا حتّى ينساه تمامًا، ويأتي مَنْ ينبش هذا التفصيل المتروك، وقتئذٍ تذكّرت تهاليل جدّتي حين كنّا نقوم بأعمال البيت. استرجاع هذا المشهد تحديدًا جعلني أشعر ببداية رحلة في الذاكرة، و"إشراق" رحلة في الذاكرة.

 

إشراق: يبدو هذا العمل الأوّل متنوّعًا في تاريخيّة الأغاني، الّتي جمعتها من الذاكرة الجماعيّة الفلسطينيّة، فهل عمدت أن يكون صوتًا نسائيًّا بحتًا؟

سناء: صحيح، صحيح، أنا كنت أبحث في عملي عن "المونولوج"، ووجدته كلّه في صوت المرأة وفي ما كتبَته وفي ما قالته؛ ولذا لم أقحم أغاني كتبها "رجال" من أجل إيجاد توازن، أصلًا لم أكن أبحث عن التوازن. أنا معنيّة بالصدق والشفافيّة مع جمهوري ومع مشروعي، هو صوت نسائيّ لأنّه صوت صادق.

ثمّة قالب غنائيّ يعجبني كثيرًا "يغنّيه الرجال"، اسمه "الشوباج"، وهو القالب الوحيد الّذي يعبّرون فيه عن مشاعرهم، دون خوف، وبعفويّة تامّة. في أسطوانة "هاجس" حضرت أصوات رجاليّة بغزل لافت، من حيث خفّته وصورته الطريفة: أغنية "طلّ القمر" أغنية غزل بامتياز، وهي أغنية رجاليّة، "السامر" أغنية رجاليّة أيضًا، فيها الكثير من الحنين، لكن بطريقتهم الخاصّة، "عَالْيومي لو إِنّو الوطن يِنْشالْ فوق جمالي، لارحل واجي لعندكم يا هاديينِ البالِ، عَالْيومي لا تحسبوا البعد نسّاني طريق هالي، لارْكَبْ على الهجنة واتدرّج على مهلي"، وهذا ما كتبته في عملي "هاجس".

و"السامر" ما يقوله الرجال في محاوراتهم، وهو يتطلّب فصاحة وذكاء وقدرة على الحفظ - ثمّة مَنْ يحفظ مئات الأبيات - فضلًا عن ذلك، أعتقد أنّ "حزن" الرجال قاتل. في هذا العمل، "هاجس"، تعلّمت أن أقدّر هواجسهم ودمعتهم" وإيّاك وإيّاك يا للّي ربيت أنا وإيّاك، وإن عشنا عشنا سوا وإن متنا أنا وإيّاك"، التراث أدب الشعب.

 

إشراق: ما التراث بالنسبة إلى سناء موسى، وقد عُرفت بفنّانة التراث منذ الـ 2000؟ وكيف ترين علاقة الفنّ بالتراث؟

سناء: يشرّفني أن أُعرف فنّانة تراث، وأنّ اسم سناء موسى يحيل على التراث. التراث إليّ قصّتي، قصّتنا وتاريخنا، والتراث إليّ سحر الكلمات والأغاني، وأنا تحت تأثير هذا السحر، وهو السهل الممتنع. التراث أغنيـتي الشخصيّة، الأغنيـة الّتي أبحث عنها. أغاني "إشراق" كان انتقاؤها من مئات الأغاني، أعتبرها أغانيّ الشخصيّة، هذه الأغاني هي سناء موسى، وكلّ أغنية في هذه الأسطوانة تتحدّث عن سناء موسى، وليس فقط عنّي، عن كلّ سيّدة فلسطينيّة، وهذا سرّ نجاح "إشراق" دون أيّ مكنة إعلاميّة؛ ببساطة لأنّ العمل منّا؛ لأنّها أغاني كلّ فلسطينيّ وكلّ عربيّ. تخيّلي مثلًا أن أنشد "طلّت البارودة والسبع ما طلّ"، أو أن أنشد "يا خيل سالم باش روحتولي؟"، في النهاية نحن نتحدّث عن نفس القصّة.

 

الخاصّيّة الفلسطينيّة مشتركة مع كلّ العالم، مشتركة مع البرتغال في أغنية "سفر برلك"، ثمّة أغانٍ كلماتها موجودة في موسيقى "الفادو"، مثلًا "باركونغرو"، وهي عبارة عن "قوارب السود" الّتي تأخذ رجالًا من البرتغال، في رحلة مضنية للبحث عن لقمة العيش؛ فما كان للنساء البرتغاليّات سوى هذه القوارب، يتحدّثن معها عن مشاقّ هذه الرحلة، الّتي ستأخذ رجالهنّ إلى المجهول في عرض البحر، وهذا ما كانت السيّدات الفلسطينيّات يفعلنه في "سفر برلك"، حين كان العثمانيّون يأخذون الرجال إلى الحرب. في الحالين لم يكن أغلب الرجال يعودون، وهذه محاور مشتركة. في "يا خيل سالم"، صليحة تحدّث الخيل كلمة كلمة، وهي لم تأت بذلك من فراغ؛ لأنّ جذورها تعود إلى زمن الاحتلال الفرنسيّ لتونس؛ ولذا لا أستغرب أن أغنّي يومًا "يا خيل سالم"؛ لأنّها فعلًا تمسّ القلب.

التراث ما يُقَدَّم، يمكن أن نقدّم التراث بشكل تأريخيّ/ أرشيفيّ، وهذا جميل وليس مجانبًا للصواب، ودليل ذلك أنّ أعمالًا قبلي تولّت هذه المهمّة منذ الثمانينات، مَسَحت أراضي كثيرة بحثًا عن هذا الموروث وقدّمت، لكنّها - في رأيي - لن تصل إلى الجماهير.

إنّ سرّ نجاح "نجمة الصبح" و"طلّت البارودة" فعاليّة التوزيع؛ مجموع البحث عن المحاور الصحيحة، في العمق الصحيح، وفي اللحظة السياسيّة الصحيحة. ولعلّه تقديم الأغاني بشكل مغاير للسائد، بشكل يعبّر عنّي، يشبهني.

إنّ الاستشراق في تقديم الأشياء لا يساعد أبدًا، بل على العكس، يتضمّن استخفافًا رمزيًّا بذكاء الناس. ثمّة أعمال قدّمت التراث على نحو استشراقيّ، بطريقة لا تمتّ إلى التراث بصلة، لا يعرفون ماذا يغنّون، وماذا يرتدون، ولا يعرفون أحيانًا حتّى مصدرها. في بعض الأحيان، تظهر أغانٍ ليست فعليًّا من صلب التراث؛ إنّ مثل هذه الأعمال تؤذي التراث؛ لأنّها إسقاط على مخزون كامل، وفي أحيان كثيرة تكون الإساءة بلا وعي، وهي في أحيان أخرى تبدو نوعًا من المتاجرة بالتراث، لا يعي مقدّمه خطورته على هذا اللون الغنائيّ، المهمّ استدعاء "الأصيل" من التراث و"المجدّد"؛ حتّى نتجنّب أيّ خلط.

 

الأرشفة مهمّة بل ضروريّة. نحن في "إشراق" نبّهنا إلى كلّ كلمة جرى تغييرها، وكلّ مقدّمة أضيفت. وقد عمل على هذه الأسطوانة لفيف من الفنّانين، منهم بشارة الخلّ، الّذي أوجّه إليه تحيّة حيثما كان، وشقيقي محمّد موسى، التقينا لمدّة نصف سنة، نناقش قولبة الأغاني فقط، ونفكّر في الطريقة الّتي يجب أن نقدّمها فيها. إذا سمعتِ أغنية "سفر دولة" في الأسطوانة، فستنصتين إلى رنين الأساور؛ لأنّ الأساور ارتبطت في مخيّلتي بمشهد العرس، عندما كنت أشارك فيها وأنا طفلة صغيرة. كنت عندما أطلّ، لا أرى سوى الأساور في أيدي النساء وهنّ يغنّين ويصفّقن؛ فيُحدثن موسيقى ما، وأنا أحببت جدًّا أن أسترجع هذا المشهد.

 

إشراق: كيف يمكن الفنّان/ المغنّي أن يجعل من التراث ذاكرة إضافيّة للإنسان؟ وكيف ترين علاقة التراث بالتاريخ؟

سناء: المفروض ألّا يكون ذاكرة إضافيّة، إنّ هذه الأغاني، وهذا التراث الّذي نحفظه ونتذكّره، ولا سيّما في حالة احتلال لشعب بأسره اقتُلع من أرضه وشُـرّد، لا يستطيع أن يُعاش في كلّ محلّ؛ ففي أوروبّا مثلًا، لا يمكننا أن نقيم مراسم "عرس" حقيقيّة وبشكل طبيعيّ، يمكن أن يكون مهرجانًا أو حفلًا، غير أنّه من الصعب أن يكون "عفويًّا" وصادقًا؛ لأنّ التراث ببساطة يحتاج إلى مساحتك الطبيعيّة، وإلى محيطك الطبيعيّ، وإلى بيئتك الطبيعيّة. التراث هو الأرض والمناخ والناس والطقس؛ فلا يمكن أن يغنّي أغاني الحصاد مَنْ لا حصاد له أساسًا، وهذا لا ينسحب فقط على التراث الفلسطينيّ، بل على كلّ تراث في العالم بأسره: أن تتحدّث عن الرحى مثلًا وأنت لم تطحن يومًا حبّة قمح واحدة، عمّ تتحدّث بالضبط؟ من هنا نحن نخلق ذاكرة للجيل الّذي لم يتواصل بشكل مباشر مع تراثه؛ لأنّه لم يُخلق في مناخ يسمح له بذلك.

نحن الآن نبني فلسطين في مخيّلة هؤلاء الشباب؛ وهنا تكمن أهمّيّة المشروع؛ ومن هنا تأتي المسؤوليّة في كيفيّة تقديم الأغاني، ونقلها بشكل صحيح ودقيق وجدّي؛ لأنّنا هنا نخلق ذاكرة، ويجب قطعًا أن تكون خالية من أيّ تشويه لجيل شابّ، يجب أن نخلق فلسطين نقيّة وجميلة في مخيّلتهم.

 

إشراق: بعد "إشراق"، جاء "هاجس ..."، ما هاجس المثقّف المهتمّ بالتراث، في مساحة جغرافيّة محكومة بمحاولات نسيان دائمة؟

سناء: الهاجس ما يسيطر على نفسيّتك كلّ الوقت، وهاجسي خوفي؛ أخاف أن ينقرض هذا التراث دون أن أتمكّن من رواية كلّ القصص. ثمّة محاور عديدة تدور حولها أغاني التراث. أنا في عملي "إشراق" لامست محورًا واحدًا، وكذلك في عملي الثاني "هاجس"، تناولت محورين من حقب تاريخيّة مختلفة كما قلتِ، لكنّ كلّ واحد فيهما – عمليًّا - لم يعالج سوى محور واحد: في "إشراق" كانت أغاني النساء غالبة، على النقيض من "هاجس" الّذي غلب عليه الصوت الرجاليّ. صحيح أنّني قدّمت أغنية جديدة من تلحين التونسيّ نزار الوحيشي، ومن كلمات زهير أبو شايب، وهذا جميل لكنّه ليس تراثًا. الهاجس والخوف عندي مقرونان بفكرة الضياع؛ ضياع القصّة في خضمّ الصراع والمعركة، هاجسي وخوفي من الوقت، وهاجسي كذلك يتعلّق بكيفيّة تقديم الأغنية؛ لأنّ التعامل مع التراث مسؤوليّة، كنز يجب تقديمه بشكل لائق، يتماشى وأهمّيّته بالنسبة إلى شعب قابع تحت الاحتلال، فقدَ أرضه ولم يبق لديه سوى التراث والحكايات والشهادات؛ دليلًا على هويّته، وتأكيد وجوده على أرض كنعان.

 

إشراق: ألا تخاف سناء موسى، فنّانة التراث بامتياز، على أنماطها الغنائيّة الفتيّة من غول العولمة، الّذي اجتاح حياة البشريّة قاطبة؟

سناء: تمامًا، ثمّة توارد خواطر بيننا فعلًا، طبعًا أخاف، وفي الواقع، خوفي دائمًا حول كيفيّة تقديم الأغنية؛ أي كيف أقدّمها على نحو تظلّ معه حاضرة في الذاكرة الجماعيّة من جهة، ومن جهة أخرى كيف تلامس الشباب، في ظلّ سيطرة عولمة حدثت وألقت ظلالًا ثقيلة وكثيرة على الذائقة الفنّيّة. أتنافس معها - العولمة - لأنّ الإشكاليّة هنا تُصاغ حول طريقة استغلال الحداثة، على نحو نجذب معه انتباه الشباب، لكن دون أن نغيّر جوهر الأغنية وأصالتها. الجمهور ذكيّ جدًّا، وليس جمهورًا مستهلِكًا، وأنا أرى أنّ عددًا من الفنّانين يعتقدون العكس - أي أنّه جمهور استهلاك - ويظنّون أنّهم يستطيعون تقديم "أيّ شيء"، بيد أنّ ما يستمرّ مع الجمهور حقيقة، هو القيّم الفعليّ من الكلمات والأغاني والألحان، أمّا الباقي فلا يصمد أكثر من يومين، ثمّ يخفت ويتلاشى وينتهي؛ لأنّه ببساطة لم يشكّل جزءًا من وجدان الناس. عندما تنتاب المرء حالة من القلق أو أيّ شعور آخر؛ سيختار الأغنية الّتي قد تريحه بعناية، ربّما تكون أُمّ كلثوم خياره في حال قلق أو وجد.

نجحت الألحان التراثيّة في فرض نفسها آلاف السنين، دون مواقع تواصل اجتماعيّة - فيس بوك، وتويتر، وإنستغرام، إلخ - فكانت على الدوام السهل الممتنع.

بالنسبة إليّ، أريد أن أسخّر هذه العولمة، هذه الحداثة، على نحو إيجابيّ، في خدمة مشروعي الفنّيّ. ثمّة "بيانو" و"كونتر باص" في بعض الأغاني، لكنّ هاتين الآلتين في خدمة المشروع وليستا مُسْقَطَتَيْن؛ لأنّهما لو كانتا كذلك لأنتجتا عملًا "مسطّحًا" و"ضحلًا"؛ ليتلاءم مع الآلة الغربيّة فحسب. أنا أسخّر هذه الآلة في المكان المناسب.

 

إشراق: في ألبوم "هاجس"، لم تغنّ سناء موسى ما حفظته من تراث، قدرما غنّت ما كتبت وما لحّنت؛ ألهذا وسمتِه هاجسًا؟

سناء: لا، هي أغنية واحدة فقط، كتبتُ لحنًا لأغنيـة "لفّي محرمتك"، وهي من كلمات جدّتي وطفة موسى، في أغنية "طلّ القمر"، ساعدتُ في تلحين بعض المقدّمات الموسيقيّة، أمّا أغنية "يا رايح ع بلاد الشام" فهي من تأليفي، أنا أَعُدّها تجربة بسيطة، ولا أرى نفسي كاتبة كلمة أو ملحّنة.

 

وهو هاجس؛ لأنّه مجموع هواجس المحاور الّتي تحدّثت عنها في "عودة النوارس"، عن التناقض بين الحرّيّة والأسر، وبين التهجير والعودة إلى فلسطين. "يا رايح ع بلاد الشام" تتحدّث عن وجع الموت والفقدان، عن مفارقة موت الأطفال في سوريا، أمّا "السامر" فهي قصّة حبّ، و"لفّي محرمتك" كما أسلفت الذكر.

كلّ هذه المحاور الّتي لم أكن لأغفل عنها طوال ثماني سنوات، ما بعد "إشراق" وما قبل "هاجس"، كلّها سيطرت عليّ وأنجبت هاجسًا واحدًا كبيرًا: ألبوم "هاجس".

 

إشراق: في أغنية "سفر برلك" نشيج بعيد، لشعب يذكّر مستمعه بمعاناته من طغاة كثر، مرّوا على أرضه ولم ينتهوا حتّى اليوم... فيه فكرة القيام، هل يبشّر التراث بفكرة أنّ العودة "مسألة وقت"؟

سناء: تحدّث التراث عن أهمّيّة العودة، وعن حنينه إلى أرضه. ينبش التراث في الذاكرة، لكن لا أستطيع أن أجزم إلى أيّ مدًى "يبشّر" بالعودة. هو عمل شبابيّ حقيقيّ، ووعي ينشر بين الشباب يعرّف ويذكّر بحقّ العودة، ويؤكّد عدم إمكانيّة التفاوض حوله. كلّ هذا من الممكن أن يؤدّي إلى كتابة أغانٍ جديدة؛ فمثلًا "هدّي يا بحر، هدّي" كتبها أبو عرب وفيها حنينه إلى أرضه، أنا أحبّ أن يسمع الشباب، الجيل الشابّ، هذا النوع من الأغاني؛ لأنّه الدليل الوحيد على أنّ قضيّتنا ما زالت حيّة.

 

إشراق: بين "إشراق" و"هاجس"... مسافة ثماني سنوات، هل تعمدين إلى وقفات تأمّل كبيرة بين عمل وآخر؟

سناء: حقيقة لا أتعمّد ذلك، لكن أنا لا أغنّي شيئًا لم يتمخّض عن تجربة، وهذه التجربة يجب أن تختمر وتنضج؛ حتّى يتسنّى للآخر أن يشاركني فيها، وكلّ هذا يحتاج إلى وقت. أنا لا أستطيع أن أغنّي شيئًا لا يعبّر عنّي، تخيّلي معي أن أغنّي شيئًا عن حياة الإنسان على كوكب الزهرة، الفكرة يمكن أن تكون ممتعة وجميلة، غير أنّني لن ألمس أيّ شيء حقيقيّ؛ لأنّه ليس هاجسي حاليًّا.

أنا سأغنّي ما ينبع من حزني ومن فرحي، ومن تجربتي ومن تجربة آبائي؛ وعليه، من المهمّ أن يأخذ العمل وقتًا كافيًا. وفي النهاية، فالقصّة ليست بعدد الأسطوانات، القصّة بأثر كلّ واحد فيها. "إشراق" - بتواضع وبفرح شديدين - غيّرت شكل المشهد الفنّيّ الثقافيّ في فلسطين أوّلًا، ثمّ خارجها.

 

إشراق: لجوليا كريستيفيا عبارة "النصّ المنجب" في مخابر الأدب، إذا ما أحلنا المصطلح على التراث؛ نرى أنّه من الطبيعيّ أن يؤثّر فينا؛ فينجب أصواتًا و"حَفَظَة"... لكن كيف نؤثّر فيه؟

سناء: أعتقد أنّ إعادة قولبة التراث، ما يساعد على نشره أو على عدم نشره؛ فإذا كانت طريقة مشوّقة، فقد ضمنّا بذلك استمراريّة التراث مع الأجيال القادمة، بل ضمنّا تطوّره وتقدّمه. "التطوّر" لا يعني أنّه متخلّف أو بدائيّ، على العكس من ذلك؛ أن يتطوّر معناه أن يأخذ شكلًا يشبهنا؛ لأنّه كلّما كانت المادّة المقدّمة تشبهنا، كانت مقنعة أكثر، وحقّقت نجاحًا أكبر.

 

إشراق: ما واجب المثقّف الفلسطينيّ - وخاصّة مثقّف الداخل - تجاه قضيّة فلسطين؟ ما الفارق الّذي يمكن أن يصنعه مقارنة بسواه؟

سناء: أنا أرفض قطعًا مصطلح "فلسطينيّي الداخل"، طبعًا لهم خصوصيّة كبيرة في سيرورة الصراع، لكنّني أفضّل مصطلحًا سمعته ذات مرّة عن "فلسطينيّي الداخل"، هو "فلسطينيّو النواة"، ثمّة حمل كبير على عاتق فلسطينيّي النواة، والمفروض أنّ كلّ فلسطينيّي العالم هم "فلسطينيّو الداخل"، حتّى الضفّة هي الداخل، على كلّ فلسطينيّ أن يورّث قضيّة وموقفًا واضحًا لمن بعده. إنّ غياب الحلّ الفوريّ لعدم توازن القوى، لا يعفي الفلسطينيّ من ضرورة توريث قضيّة، بكلّ تفاصيلها وجوانبها، ومن تعليم الأجيال القادمة كيف يطالبون بحقوقهم؛ وهذا حاليًّا يُعَدّ نجاحًا مهمًّا.

 

إشراق: كلمة لتونس...

سناء: "آخ" تونس... أتنهّد عندما أتحدّث عن تونس، لتونس مكانة خاصّة؛ احتضنت فلسطين في أكثر الظروف حرجًا. تونس علاقة كنعانيّة بين قرطاج وفلسطين، علاقة قويّة جدًّا، فيها محبّة متبادلة بيننا.

تونس... أبسط ما يُقال - وهو ما ينسحب على الجزائر أيضًا - هي في القلب، بشكل طبيعيّ وعفويّ، قريبة وحاضرة في تاريخنا ووجداننا.

 

 

تونسيّة، أستاذة لغة عربيّة، وطالبة ماجستير في "جامعة السوربون" في فرنسا، في اختصاص "الأدب الحديث". لها مقالات مختلفة محورها الأدب العربيّ بخاصّة، وحوارات مع فنّانين وكتّاب عرب عديدين.

 

 

التعليقات على خبر: سناء موسى: نبني بالتراث ذاكرةً وخيالًا، ونخشى عليه من الأعمال الّتي تؤذيه

حمل التطبيق الأن